### **"موطن مصاصي الدماء": صربيا تنازع رومانيا على إرث الظلام والسياحة**
في أعماق منطقة البلقان، حيث تمتزج الأساطير بالواقع وتتوارث الأجيال حكايات غارقة في الغموض،
يبرز صراع ثقافي وسياحي هادئ على لقب "موطن مصاصي الدماء". فبينما رسّخت
رومانيا صورتها العالمية كأرض دراكولا، بفضل قلعة بران الشاهقة ورواية برام ستوكر
الخالدة، تنهض قرية صربية صغيرة من غبار التاريخ لتطالب بحقها في هذا الإرث
المظلم، مؤكدة أن أول مصاص دماء موثق في التاريخ لم يظهر في تلال ترانسيلفانيا، بل
في حقولها المتواضعة.
![]() |
### **"موطن مصاصي الدماء": صربيا تنازع رومانيا على إرث الظلام والسياحة** |
- إنها قرية "كيسيلييفو"، الواقعة على بعد حوالي 100 كيلومتر شرق العاصمة بلغراد، والتي تسعى
- اليوم جاهدة لتغيير مسار البوصلة السياحية من رومانيا إليها، معتمدة على قصة حقيقية سبقت دراكولا
- الأدبي بأكثر من 170 عامًا.
#### **أصل الأسطورة قصة بيتار بلاغوجيفيتش**
لتعقب خيوط هذه
الحكاية، يجب العودة بالزمن إلى صيف عام 1725. في تلك الفترة، كانت صربيا تحت
الإدارة النمساوية، وكانت قرية كيسيلييفو تعيش حالة من الرعب الجماعي. بدأت القصة
بوفاة رجل محلي يُدعى بيتار بلاغوجيفيتش (Petar
Blagojević)،
وبعد وفاته بفترة وجيزة، بدأت سلسلة من الوفيات الغامضة تجتاح القرية. في غضون
ثمانية أيام فقط، توفي تسعة أشخاص، رجالاً ونساءً، بعد صراع قصير مع مرض مجهول. لكن
الأمر الأكثر إثارة للفزع هو أن جميع الضحايا، وهم على فراش الموت، زعموا أن
بلاغوجيفيتش الميت قد زارهم في أحلامهم، وخنقهم، وشرب دماءهم.
- انتشر الهلع كالنار في الهشيم. وبدافع من الخوف والإيمان المتجذر بالخرافات المحلية، قرر أهل القرية
- اتخاذ إجراء جذري. يروي ميركو بوغيتسيفيتش، الذي تعيش عائلته في كيسيلييفو منذ أحد عشر
- جيلاً، ما تناقلته الأجيال: "كان يوماً من يونيو أو يوليو. استدعوا كاهناً، وتوجهوا إلى المقبرة، وقرروا
- فتح قبر بيتار بلاغوجيفيتش".
ما وجدوه، بحسب التقرير
الرسمي الذي أُرسل لاحقاً إلى فيينا، كان صادماً. وجدوا جثة بلاغوجيفيتش "سليمة
تماماً"، دون أي أثر للتحلل، مع شعر ولحية وأظافر جديدة نامية، والجلد حيوي
وممتلئ. والأكثر رعباً، وجدوا دماً جافاً على شفتيه. يضيف رئيس البلدية السابق،
الذي يُعتبر بمثابة المؤرخ غير الرسمي للقرية: "عندما غرسوا في قلبه وتداً من
خشب الزعرور، تدفق دم جديد وطازج من فمه وأذنيه، وتأوه الجسد بصوت مسموع. حينها،
أدرك جميع الحاضرين أن الأمر لم يكن مزحة أو وهماً".
#### **من الفولكلور المحلي إلى القاموس العالمي ولادة كلمة "Vampire"**
لم تكن هذه الحادثة
مجرد حكاية قروية عابرة. لقد تم توثيقها رسمياً. الضابط الإمبراطوري النمساوي
المسؤول عن المنطقة، والذي يُدعى فرومبالد، كتب تقريراً مفصلاً عن الأحداث بعنوان "Visum et Repertum" (شوهد
واكتُشف)، وأرسله إلى السلطات في فيينا. هذا التقرير، الذي نُشر في صحيفة "فيينريشه
دياروم" (Wienerisches
Diarium) في 21 يوليو 1725، لم يكن مجرد توثيق لظاهرة
غريبة، بل كان الشرارة التي أشعلت هوس مصاصي الدماء في أوروبا الغربية.
- هنا يكمن الادعاء الصربي الأقوى. يشرح كليمنس روثنر، مدير مركز الدراسات الأوروبية في كلية
- ترينيتي بدبلن، أن الأطباء والمسؤولين النمساويين الذين وصلوا للتحقيق هم من صاغوا الكلمة التي
- ستدخل لاحقاً كل لغات العالم. يقول روثنر: "ثمة كلمة سلافية قديمة، ربما من أصل بلغاري
هي 'أوبيور' (Upior)، وتعني روحاً شريرة أو شبحاً. أعتقد أن القرويين المذعورين تمتموا بهذه الكلمة مراراً، فأساء المسؤولون النمساويون سماعها أو كتابتها، وسجلوها في تقريرهم بصيغة 'فامباير' (Vampire)". وهكذا، بأقلام البيروقراطيين النمساويين، لم تولد الكلمة فحسب، بل وُلد معها المفهوم الحديث لمصاص الدماء ككيان مادي ينهض من القبر لإيذاء الأحياء.
#### **إحياء الأسطورة مساعي سياحية في القرن الحادي والعشرين**
بعد مرور ثلاثة قرون،
كاد النسيان أن يطوي قصة بيتار بلاغوجيفيتش تماماً. لكن سكان كيسيلييفو المعاصرين
عازمون على استعادة إرثهم المفقود. كانت أولى خطواتهم هي تحديد موقع القبر المنسي،
الذي أُخفي مكانه عمداً بفعل الخوف والتطير.
- يوضح أستاذ التاريخ المحلي، نيناد ميهايلوفيتش، المهمة الغريبة التي قاموا بها: "أجرينا تحقيقاً قبل
- بضعة أعوام بمساعدة باحثين متخصصين في تحديد المواقع التي تصدر طاقة غير اعتيادية من
- الأرض. وفي بقعة محددة بجوار المقبرة القديمة، حدث أمر مذهل. القضبان النحاسية التي كانوا
- يستخدمونها غاصت في الأرض بعنف
وهو أمر لم يشهده الخبير من
قبل". وأشار ميهايلوفيتش إلى حجر متآكل بالكاد يُرى بين الأعشاب، قائلاً:
"هذا القبر كان يصدر مؤشرات طاقة لا مثيل لها". بعد نبش الجثة في 1725،
تم حرقها وإلقاء رمادها في بحيرة قريبة، لكن موقع القبر الأصلي أصبح الآن مزاراً
رمزياً.
- ترى دايانا ستويانوفيتش، مديرة هيئة السياحة الصربية، أن "الإمكانات هائلة". وتضيف: "ترتبط
- أساطير وخرافات كثيرة بمنطقتنا. لا أتحدث فقط عن قصة بيتر بلاغوجيفيتش، بل أيضاً عن سحر
- منطقة والاشيا (Vlach) المتاخمة لرومانيا، حيث لا تزال الطقوس التي توصف بـ 'السحر الأسود'
- قائمة". هذا المزيج من التاريخ الموثق والفولكلور الحي يمنح صربيا منتجاً سياحياً فريداً.
#### **بين الخرافة والعلم محاولة تفسير الظاهرة**
لكن، هل كان بيتار
بلاغوجيفيتش مصاص دماء حقاً؟ يقدم العلم والتاريخ تفسيرات بديلة وأكثر عقلانية. يعود
البروفيسور روثنر ليطرح نظرية مقنعة: "مصاصو الدماء، تماماً مثل السحر
والشعوذة، كانوا نماذج تفسيرية شائعة جداً لما لا يمكن تفسيره، وخصوصاً الظواهر
الجماعية كالأوبئة".
- النظرية الأكثر ترجيحاً هي أن القرية كانت ضحية لتفشي وباء الجمرة الخبيثة (Anthrax). هذا
- المرض، الذي ينتقل من الماشية إلى البشر، يمكن أن يسبب الموت السريع، كما أن له تأثيرات غريبة
- على الجثث بعد الموت. يمكن أن يؤدي الانتفاخ الناجم عن الغازات إلى دفع الدم المتبقي في الرئتين
- إلى الفم، مما يعطي انطباعاً بأن الجثة قد "شربت دماً". كما أن نقص الأكسجين قد يحافظ على مظهر
- الجلد المحمر لفترة، مما يوهم المراقبين بأن الجثة "حية".
يضيف روثنر: "سردية
مصاصي الدماء هي شكل من أشكال التفكير السحري. فبدلاً من مواجهة عدو غير مرئي
ومجهول مثل البكتيريا، كان من الأسهل نفسياً إلقاء اللوم على مذنب ملموس: شخص شرير
عاد من الموت ليجر جيرانه معه إلى القبر".
#### **مستقبل غامض إرث يتأرجح بين الإيمان والسردية**
اليوم، تقف كيسيلييفو
عند مفترق طرق. هي تمتلك قصة أكثر أصالة وتوثيقاً من أسطورة دراكولا، لكنها تفتقر
إلى البنية التحتية والتسويق العالمي الذي تتمتع به رومانيا. يبقى السؤال مفتوحاً:
هل ستنجح صربيا في استثمار هذا الإرث الفريد وتحويله إلى وجهة سياحية عالمية؟
- بالنسبة لبعض السكان المحليين مثل ميركو بوغيسيفيتش، الأمر يتجاوز السياحة والمال. إنه يتعلق
- بالإيمان باللامرئي. يقول بتأمل: "أعتقد أن ثمة أشياء لا نستطيع تفسيرها. إذا كنا نؤمن بالحياة بعد
- الموت، فلماذا لا نؤمن بكل ذلك؟".
الختام
سواء كان بيتار
بلاغوجيفيتش ضحية لوباء، أو لجهل قروي، أو كان بالفعل كائناً خارقاً، فإن قصته تظل
فصلاً محورياً في تاريخ الفولكلور العالمي. إنها تذكير بأن الخوف من الموت
والمجهول يمكن أن يلد أغرب الأساطير وأكثرها خلوداً، وأن الحقيقة، أحياناً، تكون
ضائعة في مكان ما بين تقرير رسمي نمساوي وهمسات خائفة في قرية صربية نائية.
### **"موطن مصاصي الدماء": صربيا تنازع رومانيا على إرث الظلام والسياحة**